يقول الشيخ: (لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعتى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر).
له مقامات ومواقف، من الذي استطاع أن يقف أمام فرعون الذي ادعى الألوهية فقال: ((
مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))[القصص:38] وادعى الربوبية: ((
أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى))[النازعات:24] وقال: ((
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي))[الزخرف:51] عياذاً بالله؟! لم يتجرأ أحد على التلفظ بمثل هذا، وبهذه القوة والعناد؛ ولهذا لم يتحدث الله تبارك وتعالى عن عدو من أعدائه كما تحدث عن فرعون.
ومع هذا الطغيان، فإن أمة القبط كانت خانعة وخاضعة له، وأما بنو إسرائيل فقد كانوا عبيداً عند الأقباط، يستضعفونهم، ويستحيون نساءهم، ويذبحون وأبناءهم، فليس لهم أي قيمة؛ فيأتي هذا الرجل -موسى عليه السلام- وهو وحده، إلا أن الله تعالى جعل معه أخاه هارون وزيراً، يأتي ويواجه هذا المجرم ويناظره ويجادله، ثم يبلغ به من قوة إيمانه ويقينه وتوكله على ربه، وثقته بما يوحي إليه أن يقول: ((
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى))[طه:59] يطلب أن يكون اللقاء في يوم العيد، وأن يجتمع الناس جميعاً؛ ليروا أأنا على الحق أم أنت يا فرعون؟!
وهذا الأمر لا يطيقه إلا من كانت ثقته وقوة إيمانه بالله سبحانه وتعالى ويقينه قوياً، ثم تكون له الغلبة والنصر!
لقد عالج عليه السلام ما عالج من أمر أولئك الأمة العتية التي كتب الله سبحانه وتعالى عليها غضبه، وضرب عليها الخزي والذل أينما حلت وسارت، أمة بني إسرائيل العتاة، غلاظ الأكباد، عبدة الدرهم والدينار، هؤلاء الذين يرون آيات الله سبحانه وتعالى عياناً ثم ينكرونها، ويجحدون ويكابرون.
مع أن الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليهم بنعم كثيرة، فقد أنزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من آل فرعون بعدما كانوا يفعلون بهم ما يفعلون، وقبل تبارك وتعالى توبتهم لما عبدوا العجل، ولما نتق فوقهم الجبل وتابوا رفع عنهم العذاب، وطلبوا ما هو أردأ، استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير... حتى بلغ بهم الأمر أن قتلوا الأنبياء بغير حق.
أي أمة أعتى وأشد في الكفر والجحود والعناد من هذه الأمة؟!
كتاب الله بين أيديهم، فحرفوه وبدلوه، وافتروا على الله تبارك وتعالى الكذب، ويكتبون الكتاب بأيدهم ويقولون: هذا من عند الله وما هو من عند الله، ويأكلون بهذا الكتاب ثمناً قليلاً، يأكلون السحت والربا، وقالوا في مريم وعيسى بهتاناً عظيما، وقالوا في محمد صلى الله عليه وسلم إفكاً مبيناً.
وكم نذكر من ذنوبهم؟!
وإن الذي عالج هذا وتعب منه أشد التعب والمعاناة هو نبي الله تعالى موسى؛ فقد أخبر الله عنه فقال: ((
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ))[المائدة:21] أي: أن النصر مضمون، ادخلوا، ولكنهم ردوا عليه: ((
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ))[المائدة:24]، نعوذ بالله! أيقول هذا مؤمن بالله سبحانه وتعالى؟!
وكلما أمرهم بأمر أو نهاهم عن نهي يبدلوه؛ حتى إنه لما قيل لهم: ((
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ))[البقرة:58]، قالوا: حنطة، استهزاءً وسخرية! فهذه الأمة عالج منها صلوات الله وسلامه عليه ما عالج، وتعب، وبذل ما بذل، من أجل أن تهتدي إلى الحق.
فصبره مع فرعون، ومع هذه الأمة، ويقينه بالله الذي ما فارقه، لما أمره الله تبارك وتعالى وبني إسرائيل أن يخرجوا؛ فخرجوا وأتبعهم فرعون بجنوده، فلما رأوا الماء أمامهم، والعدو خلفهم ((
قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))[الشعراء:61] أمة لا يقين لها في الله: ((
قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ))[الشعراء:62]، هذا اليقين لا يأتي لكل إنسان، فكثير من القلوب تهتز وتضعف، وتتزلزل وتنهزم، وتبدأ تفكر كيف تنسحب وتستسلم وتعتذر، ولكنه قال: ((
كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ))[الشعراء:62] ثقة بالله سبحانه وتعالى.
وغيرها من المواقف العظيمة لهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه، التي تذكرنا بمواقف أفضل رسل الله سبحانه وتعالى، وأكثرهم جهاداً في ذات الله محمد صلى الله عليه وسلم.